تقدير موقف

بين الرُّعب والرَّدع

مركز سونار الإعلامي، رؤية جديدة في مواكبة الإعلام الرقمي تابعونا على قناة اليوتيوب ليصلكم كل جديد

ميثم مرتضى

سبعة عشر عاماً مضت على حرب تموز قبل ٧ أوكتوبر، قامت خلالها المقاومة في لبنان بردم الهوّة في القوة المادية بينها وبين الإسرائيلي عبر تحسين قدراتها وتطوير إمكاناتها التسليحية والتكتيكية بشكل كبير، فضلاً عن التحضير في الميدان والقدرة البشرية، وكانت المعادلة الأساس خلال هذه السنوات – سيما الأخيرة منها – أنه لا أيام قتالية مع الإسرائيلي.
‏بمعنى أنها أفهمته أنك إن ضربتَ أي هدف قد نذهب لفتح حربٍ.

ولكن مع بدء القتال بينها وبين الإسرائيلي في ٨ أكتوبر، فإن هذه المعادلة وغيرها من معادلات فترة وقف إطلاق النار قد انتهت، وبدأنا فعلاً في أيام قتالية محدودة ومحسوبة بدقة كبيرة، رغم كل محاولات التمادي – إلى حدٍ ما – من قبل الإسرائيلي للهيمنة على وتيرة التصعيد، لكنه فشل إلى الآن لأن المقاومة عملياً تقوم بمجاراته بالتصعيد (نوعاً وكمًّا)، وكما قال سماحة الأمين العام: (بتوسِّع، منوسِّع).

جبهة جنوب لبنان اليوم صعبة جداً، وهي فعلياً أمُّ الجبهات رغم كل الدمار والقتل الحاصل في غزة، إلا أننا أمام مشهدٍ معقَّدٍ جداً من الصراع بين عدو يمتلك كل أدوات ووسائل التفوق والتقدُّم، ومقاومة تعرف جيداً من أينَ تؤكل الكتف.

وعندما يكون الصراع غير متكافئ من الناحية المادية والتكنولوجية مع تفوق واضح لسلاح الجو الذي يمتلكه طرف واحد فقط، فإنَّ أهداف الطرف الأضعف (مادياً) تصبح بطبيعة الحال أهدافاً استراتيجية عامة توصله إليها خطة عملانية محددة وأهداف تكتيكية تفرضها طبيعة الصراع والمستجدات على الساحة.

ولكي نقرأ الصراع الدائر بصورة صحيحة علينا أن نفهم أهداف المقاومة أولاً لأنها (الأضعف مادياً) رغم أنها فعلياً من أشعلت فتيل تلك الجبهة، ثم بعدها نفهم أهداف العدو.

المقاومة ومنذ اليوم الأول قالت علانيةً بأن جبهة جنوب لبنان هي جبهة مساندة ودعم لغزة، وقد تم معها إشغال أكثر من ثلث الجيش الإسرائيلي، أضف إلى ذلك تهجير أكثر من ١٥٠ ألف مستوطن من الشمال إلى الوسط، وهذا ما شكل ويشكل عبءاً كبيراً وضغطاً أكبر على حكومة ومجتمع الكيان.
هذا الهدف قد تحقق منذ الأيام الأولى لبدء الصراع ولازال إلى الآن، ووظيفة المقاومة هي الإستمرار في الإشغال والضغط.

أما من جهة العدو فهو بعد ٧ أكتوبر حدد لنفسه ٤ أهداف، منها ترميم أو إستعادة الردع الإقليمي، وهو يعمد إلى القتل والتدمير والإفراط في استعمال القوة واستعراض الجنون ساعياً لترميم أو استعادة هذا الردع، ولكنه فشل إلى الآن، فقبل ٧ أكتوبر لم يكن الكيان يتلقى ضربات من الداخل بحجم طوفان الأقصى، ولا من الخارج كما يحصل من لبنان والعراق واليمن.
فهل رمَّم الردع الإقليمي أم أنه خسره أكثر فأكثر؟

إن خمسة شهور من الحرب لم تعط الإسرائيلي أي تقدم أو نصر استراتيجي، بل على العكس تماماً هو قد فاقم أزماته وعمَّق المأزق على نفسه ولا يستطيع إلى الآن الخروج من عنق الزجاجة.
وأما صورة النصر المدَّعاة من قبله وبعض أنصاره وأتباعه من ناشطين ووكالات إعلامية ما هي إلا تضخيم مقصود لبعض الإنجازات التكتيكية التي لا ترتقي أبداً لمستوى الإنجاز الإستراتيجي، في محاولةٍ فاشلة لتلميع صورة الكيان، ومنحه إنجازاً وهمياً لحفظ شيء من ماء الوجه بعد كل هذا الوقت.

فالمشكلة الأساسية عند الكيان اليوم هي أن فكرة دولة إسرائيل الوطن الآمن والذي يصلح للعيش باتت غير موجودة، وأن نظرية المستوطن المحمي في مستعمرته وخلف حدوده غير متحققة، وأن إسرائيل باتت عرضةً لمن هبَّ ودبَّ أن يتجرأ عليها ويضربها ساعة يشاء وكيف يشاء، ولا يردعه عنها لا ترسانتها الهائلة ولا الدعم الدولي الكبير لها، ولا أساطيل الولايات المتحدة وبريطانيا ودول الخليج الخانعة.

هذه هي المعضلة الكبيرة اليوم، وهذا ما يشغل بال نتنياهو وحكومته المتطرفة الذين يعتبرون أن الهدنة والمسار السياسي سوف يحققان التفوق للخصم على حساب الكيان بتثبيت هذه النظريات أعلاه، وبخلق وعي جمعي جديد لدى المستوطنين وشعوب المنطقة، سيحيي من جديد وبقوة القضية الفلسطينية بعد أن كانت (بنظره) ذاهبة إلى الزوال، بالتطبيع مع آخر الدول العربية الذي كان قاب قوسين أو أدنى.

وبعد كل الذي تقدم، نسأل:
هل تقدَّمت إسرائيل ولو خطوة واحدة في مسألة ترميم الردع؟
هل باتت تمتلك الهيمنة على وتيرة التصعيد؟
هل تستطيع اليوم إسرائيل أن تضرب في لبنان كيف تشاء وأين تشاء كما فعلت وتفعل في غزة، دون أن تحسب بدقة متناهية وبحذر وحرص شديدين ردة فعل المقاومة، واحتمالية تدحرج الأمور أو انفلاتها؟

الجواب على هذا الأسئلة جميعها هو لا، والسبب بكلمة واحدة: لأنها مردوعة.

وإذا كانت نظرية الردع تستند على افتراض مفاده أن القوة هي أفضل علاج للقوة، وقوة الدولة هي العامل الأساس لكبح جماح الآخرين، وعندما يتحقق لدولة ما تفوق في القوة فإنها تستطيع فرض إرادتها على الدول الأخرى، ولا يكبح جماحها إلا قوة أخرى مضادة لها أو متفوقة عليها.
فهل تستطيع إسرائيل اليوم فرض هيمنتها وإرادتها على لبنان؟
وهل تقوم المقاومة في لبنان بكبح جماح إسرائيل وتعقيد مشاكلها وأزماتها أكثر فأكثر؟

إذن فليست إسرائيل هي الرادعة للمقاومة في لبنان، ولسنا ندَّعي هنا أنَّ المقاومة قد امتلكت الردع المطلق والكامل للكيان، ولكنها مردوعة إلى حد كبير رغم ما تمتلكه من ترسانات عسكرية، وتفوق واضح في كل المستويات المادية، ودعم دولي وعالمي لا نظير له.

لننظر فقط إلى حال مستوطنات الشمال شبه الخالية، وإلى المستوطنين الرافضين للعودة إلى مستعمراتهم حتى بعد وقف إطلاق النار إذا لم يتراجع الحزب أو (الرضوان) إلى حدود الليطاني.

خلاصة القول:
إن إسرائيل تسعى اليوم لترميم أو استعادة الردع مع لبنان، كما أنها تصعِّد من ضرباتها بحذر ودقة شديدين بين الحين والآخر محاولةً الإمساك بوتيرة التصعيد، كي تكون المبادرة بيدها، علَّها تطفئ جبهة لبنان، أو تضبطها وتحد من تأثيرها، ثم بعدها تأخذ الأمور نحو تسوية معينة تفرض شروطها هي.

وبينما هي تسعى لاستعادة الرَّدع، نرى أن حزب الله قد نُصِر بالرُّعب، وبين الرُّعب والرَّدع فرق كبير..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى