إلى أين تتجه السياسة الخارجية الأمريكية؟
لورانس كورب – ناشيونال إنترست
هناك أربع استراتيجيات متميزة مطروحة للإدارة المقبلة. فما هو جوهرهذه الاستراتيجيات؟
بعد انسحاب بايدن من السباق إلى البيت الأبيض، وتوصيف أدائه السياسي بالكارثة من قبل أكبر المواقع الإعلامية، يشعر معظم الأعضاء الديمقراطيين في مجلس النواب والشيوخ بالقلق بشأن انتخاباتهم الخاصة. وفيما يتعلق بجوهر السياسة كانت المناظرة بين بايدن وترامب مجرد خطوة في رحلة ستتطلب أشهرا من الحملات الانتخابية بين ترامب وهاريس لفرزها.
وتكتسب مواقف المرشحين والأحزاب المختلفة بشأن السياسة الخارجية والاستراتيجية العسكرية الأميركية أهمية خاصة في هذا الصدد. فالعالم يتحول من نشوة الانتصار الأميركي والغرور الديمقراطي الليبرالي التي سادت بعد الحرب الباردة إلى صورة أكثر تعقيدا. وتؤدي عودة الحروب والصراعات الأخرى بين القوى الكبرى، وخاصة فيما يتصل بالقدرات والتطلعات المتزايدة للصين وروسيا، إلى خلق حالة من عدم اليقين بشأن الأهداف السياسية للولايات المتحدة واستعدادها العسكري في أوروبا وآسيا.
وعلاوة على ذلك، تساهم التحديات غير المسبوقة في تغير المناخ والأوبئة؛ والجهود الرامية إلى خلع الدولار كعملة مرجعية للمعاملات الدولية؛ والهجرة الجماعية بأعداد غير مسبوقة؛ والتكنولوجيات الجديدة للحرب السيبرانية، والذكاء الاصطناعي، والاستخدامات العسكرية للفضاء، في موجة محتملة من زعزعة استقرار الأنظمة السياسية وإزعاج التخطيط العسكري. والواقع أن اليقينيات التي يعيشها الساسة ومستشاروهم العسكريون اليوم قد تصبح مجرد تخمينات في الغد.
وبناء على الواقع السياسي نحتاج إلى فهم وجهات نظرالمرشحين الرئاسيين المتنافسين بشأن هذه البيئة الدولية من التعقيد السياسي وعدم اليقين العسكري. ولايوجد أية دولة لديها موارد غير محدودة، حتى الولايات المتحدة التي تواجه عجزا تراكميا يزيد عن 35 تريليون دولار، ولا يمكنها الاستمرار في الإنفاق غير المقيد على أولويات السياسة الداخلية والخارجية.
وهذا يستدعي عددا من الأسئلة: ما هو التوجه الجيوسياسي أو الاستراتيجية الكبرى المفضلة لأميركا في المستقبل؟ وما هي الالتزامات والتعهدات العسكرية المستمدة من هذه الاستراتيجية الكبرى؟ وما هي الافتراضات التي يجب أن تدفع الاستعداد العسكري لردع الحروب، وإذا لزم الأمر، لمحاربتها؟
وبصورة عامة، تشمل الخيارات المتاحة للاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة “الهيمنة الليبرالية” أو “التوازن الخارجي” أو “العولمة غير المحدودة” أو “المشاركة والتوسع الانتقائي”. وقد تم استبعاد الانعزالية كخيار لأن ذلك لن يكون ممكنا في عالم اليوم الذي يتسم بالترابط المعقد والتشبع الإعلامي، حتى لو اعتبره البعض مرغوبا فيه.
لقد اتخذت الولايات المتحدة استراتيجية الهيمنة الليبرالية في تسعينيات القرن العشرين بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي. وكان المتفائلون بشأن عالم ما بعد الاتحاد السوفييتي يفترضون نهاية التاريخ وانتصار الديمقراطية الليبرالية الدائم. وكانت الولايات المتحدة قوة عظمى عالمية فريدة ليس لها منافس عسكري جاد. ومع ذلك، قلل الرئيس كلينتون من التركيز الوطني على الأمن والدفاع، بما في ذلك الاستخبارات، والتي عادت لتطاردنا بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر. ومع ذلك، غزت الولايات المتحدة أفغانستان لإسقاط طالبان في عام 2001 وأسقطت نظام صدام حسين في العراق في عام 2003. وأعلنت الحرب العالمية على الإرهاب، وتحول الصراعان إلى “حربين أبديتين” استمرتا حتى العقد الثاني من القرن الحالي.
كان التوازن الخارجي استراتيجية بديلة كبرى يفضلها بعض الأكاديميين ومحللي السياسات البارزين. ومن هذا المنظور، ينبغي للولايات المتحدة أن تقتصر تدخلاتها العسكرية واسعة النطاق على التهديدات من جانب قوة معادية بالهيمنة على منطقة أساسية بطرق معادية للمصالح الحيوية للولايات المتحدة وحلفائها. ومن بين المنافسين الإقليميين روسيا الصاعدة في أوروبا، والصين الصاعدة في آسيا، وبموجب هذا النهج، سوف تسعى الولايات المتحدة أولا إلى الاعتماد على حلفائها الإقليميين لتولي زمام المبادرة إذا كانوا مستعدين للقيام بذلك، على الرغم من أن الولايات المتحدة سوف تتحرك بخلاف ذلك إذا تعرضت مصالحنا الحيوية للتهديد.
وهناك استراتيجية العولمة غير المحدوردة التي يفضلها عددا كبيرا من الساسة في مرحلة ما بعد الحداثة ومجتمع عالمي من الناشطين. وتركز الاستراتيجية على التحديات العابرة للحدود الوطنية على حساب التنافسات الوطنية، وتدعو إلى نقل قضايا مثل تغير المناخ، والفقر، والهجرة، والتحضر، والأوبئة، ونزع السلاح إلى مقدمة أجندات السياسة الوطنية. ومن هذا المنظور، يتحول التنافس من الهيمنة إلى التعاون العلمي الدولي وحفظ السلام تحت إشراف الأمم المتحدة أو غيرها من الهيئات الدولية.
إن الاستراتيجية الكبرى الرابعة تتلخص في المشاركة الانتقائية والتوسع. وقد حظي هذا النهج بدعم بعض المسؤولين في إدارة بِل كلينتون، وركز على النمو الاقتصادي من خلال التعاون والاستثمار الدوليين. ورغم الاتفاق الواسع النطاق بين الديمقراطيين والجمهوريين في تسعينيات القرن العشرين على أن تحرير التجارة الحرة من شأنه أن يشكل مداً صاعداً يرفع كل القوارب، فقد أصبح من الواضح في نهاية المطاف أن بعض الدول سوف تستفيد بشكل مباشر أكثر من غيرها.
وقد تم تنفيذ التدخلات العسكرية في أعقاب المجاعة في الصومال من أجل كبح جماح أمراء الحرب، الأمر الذي أدى إلى حلقة “سقوط بلاك هوك” التي أدت إلى انسحاب الجيش الأميركي من تلك الدولة. وفي أماكن أخرى، تدخلت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لاستعادة النظام في البوسنة في عام 1995، وخاضت حربا ضد صربيا في عام 1999 من أجل منع التطهير العرقي والصراع الطائفي في أوروبا. وأثارت هجمات حلف شمال الأطلسي على صربيا في عام 1999 غضب الحكومة الروسية ورئيسها بوريس يلتسين الصديق للولايات المتحدة، وهو ما كان بمثابة مقدمة للاعتراضات اللاحقة على توسع حلف شمال الأطلسي من قِبَل خليفته فلاديمير بوتين.
ومن بين هذه الاستراتيجيات الكبرى المتنافسة، تضمنت السياسات الخارجية والدفاعية لإدارة بايدن بعض العناصر من كل من الخيارات الثلاثة الأولى. ومن المرجح أن تعمل إدارة هاريس على توسيعها. وتُظهِر ميزانيات الدفاع المتزايدة والدعم العسكري القوي من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي لأوكرانيا ضد الغزو الروسي أن الهيمنة الليبرالية لا تزال طموحا بين الديمقراطيين وعدد من الجمهوريين في واشنطن. ويقترب الدعم الأمريكي لإسرائيل في الشرق الأوسط من تحقيق التوازن الخارجي ضد المنافسين الإقليميين الخطرين. كما يعكس الالتزام الأمريكي التاريخي بالدفاع عن السيادة الإسرائيلية ضد الأعداء الإقليميين.
ولكن التقدميين في إدارة بايدن، بمن فيهم العولميين، اعترضوا على التكتيكات العسكرية الإسرائيلية في الحرب ضد حماس في غزة. وفيما يتعلق بالصين، تم تقسيم سياسة بايدن بين الخيارين الأول والثاني: التأكيد على تعزيز الدفاع الأمريكي والاستعداد بشكل أكبر لمحاولة الاستيلاء العسكري الصيني على تايوان أو النظر إلى الصين كمنافس اقتصادي ومعلوماتي أكثر من كونها تهديدا عسكريا مباشرا، على الرغم من أن قدرات الصين المتنامية في الحرب السيبرانية وفي الفضاء تثير قلقا كبيرا. ومع ذلك، يرى آخرون أن صعود الصين يمثل تحديا علميا وتكنولوجيا يجب أن لا يتطور إلى سباق تسلح أو حرب، وهو ما يشبه الخيار الثالث.
ولكن أين قد تضع إدارة ترامب الثانية نفسها في الاختيار بين هذه الاستراتيجيات الكبرى (أو غيرها)؟
من غير الممكن معرفة ذلك في الوقت الحالي لأن ترامب يعتمد على قدرته الشخصية على التعامل مع رؤساء الدول الآخرين من أجل حل النزاعات الدولية. ويبدو أن بعض تعليقاته تؤيد الخيار الأول وهو الهيمنة الليبرالية. ومع ذلك، فهو يقدر أيضا قدرته على جذب الزعماء المعادين إلى تحالفات أكثر ملاءمة من خلال القمم الكبرى والمشاركة الانتقائية. ووعد ترامب باتخاذ إجراءات صارمة ضد الهجرة غير الشرعية والصفقات التجارية التي تضر بالمنتجين والمصنعين الأميركيين.
وفي هذا الصدد، يجمع ترامب بين القومية القديمة والعولمة، كما نسب الفضل إلى نفسه في إبقاء الولايات المتحدة بعيدة عن الحروب الكبرى أثناء إدارته، على الرغم من أنه أذن بضربات انتقائية ضد الإرهابيين والأنظمة المارقة. وفي المناسبات العامة خلال هذا العام، أكد أنه سينهي الحرب في أوكرانيا بين وقت انتخابه في نوفمبر 2024 وتنصيبه في يناير 2025. ويبقى أن نرى ما إذا كان زيلينسكي والرئيس الروسي بوتين على نفس النهج مع هذا الجدول الزمني.