د. مصطفى يوسف اللداوي | كاتب وباحث سياسي فلسطيني
يحاول الإسرائيليون والأمريكيون معاً خلال عدوانهم المشترك المستمر على قطاع غزة، تنفيذ مخططاتهم القديمة وتحقيق أهدافهم الجديدة، واستدراك ما عجزوا عن تنفيذه خلال السنوات الماضية، وانتهاز الفرصة التي أتاحها العدوان لفرض رؤيتهم الخاصة بالقوة العسكرية، وتحت عصف القصف وكثافة النيران، مستغلين حالة الإجماع الغربي معهم، والتحالف الذي شكلوه ضد الشعب الفلسطيني، وحالة الاستخذاء الرسمي للأنظمة العربية المعنية، التي قد تخضع وتقبل، وتوافق، رغباً ورهباً، على المخططات وتشارك في تنفيذها.
يتدرج الإسرائيليون والأمريكيون معاً في أهدافهم المعلنة، ويتحركون بينها صعوداً ونزولاً وفق مجريات الميدان العسكرية، والظروف السياسية والرأي العام الدولي، الذي يساهم ولو بقدرٍ ضئيل جداً في تحديد مسار العمليات العسكرية، ومآل التوجهات السياسية والحلول الممكنة والخيارات المتاحة، ولكن من الواضح تماماً أنهما لا يستطيعان الاستقرار على رأي، ولا يتمكنان من الثبات على موقف، فالأحداث متوالية وهي تتغير بسرعة، والوقائع على الأرض تتبدل وتفرض نفسها، ويصعب عليهما تجاوزها أو السيطرة عليها.
فهما يتطلعان إلى تفريغ قطاع غزة من سكانه، وتهجيرهم إلى مصر ومنها إلى دول العالم المختلفة، والتخلص كلياً من عقدة القطاع التاريخية، والشفاء التام من الصداع المزمن الذي يسببه لهم منذ سنوات النكبة، ولا يكون هذا إلا بإخراج الفلسطينيين منه، وإعلان ضمه إلى الكيان الصهيوني، وفرض سلطتهم وسيادتهم عليه، لكن شرط أن يكون خالياً من سكانه الفلسطينيين.
ولما تعذر عليهما تحقيق هذا الهدف، الذي بدا مستحيلاً أمام إرادة الشعب الفلسطيني، الذي يرفض كلياً منطق الهجرة واللجوء والنزوح، ويقدم أبناؤه في سبيل ذلك أرواحهم وبيوتهم وممتلكاتهم، لجأ الإسرائيليون إلى دفع سكان شمال قطاع غزة للتحرك جنوباً نحو رفح وخانيونس والمعسكرات الوسطى، بحجة أن الجنوب آمن، وفيه مؤنٌ ومساعداتٌ، واللاجئون فيه وإليه سيكون في مأمنٍ ولن يتعرضوا للخطر، إذ لن تغير عليه بزعمهم الطائرات الحربية، ولن يقصف من البر والجو والبحر.
رفض الفلسطينيون في شمال قطاع غزة خطته، ولم يستجيبوا إلى توجيهاته وإرشاداته، ولم يخافوا من تهديداته وغاراته، وقد رأوا إخوانهم يقتلون في جنوبه، ولا يأمنون في مدنه ومخيماته، وشاهدوا العدو يغدر بمن صدقوا وعوده ووثقوا في بياناته وحاولوا الانتقال إلى الجنوب، إذ استهدف قوافلهم، وقصف بيوتهم، ودمر أماكن الإيواء ومدارس ومقار الأمم المتحدة التي لجأوا إليها طلباً للأمن والسلامة، ولكن غدر العدو كان أسبق وأسرع، فقرر من نجا من سكان الشمال العودة إليه، والبقاء فيه والثبات عليه، وكان أكثر من 70% من سكانه قد رفضوا الخروج منه أصلاً، وأصروا على البقاء فيه رغم القصف الوحشي والتدمير المهول، وبذا فشل العدو في مخططه البديل.
لما تعذر تهجير الكل ونقل الجزء وحشر الجميع في منطقة صغيرة في الجنوب بعد وادي غزة وصولاً إلى الحدود المصرية، بدأ الحديث عن إخراج “المسلحين” الفلسطينيين من قطاع غزة، مقابل الحفاظ على حياتهم وعدم المس بهم، تماماً كما حدث مع مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية إبان الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982.
إلا أن هذا العرض ترفضه المقاومة ولا يقبل به الشعب، ولا يبدو أبداً أنه يشبه بحالٍ خروج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان، فغزة هي بلدهم وأرضهم ووطنهم، ولا يوجد في قاموس المقاومة مكان لمفاهيم الخروج والإبعاد والترحيل وغير ذلك، بل يقوم قاموسها المقاوم على الانتصار التام والغلبة المطلقة، والثبات على الأرض والصمود أمام التحديات، وطرد جيش الاحتلال بقوة النار تحت وقع عملياتها التي توجعه وتؤلمه، وتكبده خسائرة متزايدة في الأرواح والآليات والمعدات.
لن يتوقف العدو الإسرائيلي والولايات المتحدة الأمريكية عن محاولة البحث عن أهداف جديدة، ورسم مخططاتٍ بديلة، فهم حتى نهاية الأسبوع الرابع من عدوانهم المشترك على قطاع غزة، وعلى شعبنا الفلسطيني كله في القدس والضفة الغربية ولبنان، لم يتمكنوا من إحراز تقدمٍ، أو تحقيق نصرٍ، أو إنجاز وعدٍ، ولن يتمكنوا أبداً من تحقيق شيءٍ يوهمون به مستوطنيهم، أو يرضون به مجتمعهم المتهالك وشعبهم الخائف.
إن أهدافهم بعيدةٌ ومستحيلة، ومخططاتهم وهمٌ وعبثٌ، بينما أهدافنا عقيدة وغاياتنا مقدسة، وسيبقى القطاع صامداً، والمقاومة قويةً، وسيبرأ أهلنا من الجراح، وسيحتسبون ما قدموا شهداءً في سبيل الله، وسينهضون من جديد، وسيواصلون الطريق، وسيعيدون بناء ما دُمِّرَ وعمران ما خُرِّبَ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون.