استراتيجية

الهيمنة التكنولوجية: ما الملامح المستقبلية للنظام العالمي الجديد؟

مركز سونار الإعلامي، رؤية جديدة في مواكبة الإعلام الرقمي تابعونا على قناة اليوتيوب ليصلكم كل جديد

عقب انهيار الاتحاد السوفييتي في التسعينيات، وتحوُّل النظام الدولي من نظام ثنائي القطبية إلى أحادي القطبية، أصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم، لكن منذ نحو 15 عاماً، تغَيَّر العالم مرة أخرى وأصبح الأمر أكثر تعقيداً؛ إذ أصبحت واشنطن أقل اهتماماً بأن تكون مسؤولة عن الأمن في العالم، أو حتى المشجعة للقيم العالمية. أما البلدان الأخرى، التي أصبحت أكثر قوةً، فقد كانت قادرةً على تجاهل القواعد الدولية، وهو ما أفرز واقعاً جيوسياسيّاً جديداً في العالم. وفي ضوء هذا نشر موقع “فورين بوليسي” مقالاً للكاتب “إيان بريمر” مؤسس ورئيس مجموعة أوراسيا، بعنوان “القوة العظمى العالمية التالية ليست مَن تعتقد”؛ وذلك بتاريخ 17 يونيو 2023، وهو المقال الذي حاول رسم الملامح المستقبلية للنظام العالمي الجديد.

قضايا محورية

يشير المقال إلى حدوث ثلاث قضايا تسببت في هذا الركود الجيوسياسي؛ حيث لم يعد الهيكل العالمي يتماشى مع ميزان القوى الأساسي، وهي ما يأتي:

1– تشكيك روسيا في النظام الدولي الحالي: أصبحت روسيا الآن، بصفتها قوة عظمى سابقة في حالة تدهور خطير، تشعر بالاستياء الشديد، وتعتبر الغرب خصمها الأساسي على المسرح العالمي. وسواء كان اللوم في ذلك يقع على عاتق الولايات المتحدة وحلفائها أو على روسيا، فإن المقال يرى أنه كان لذلك دور رئيسي في الوضع الحالي للنظام الدولي.

2– انخراط صيني قوي في الاقتصاد العالمي: وذلك على افتراض أنه كلما أصبح الصينيون أكثر تكاملاً وثراءً وقوةً، سيصبحون أيضاً أكثر “أمركةً”. ويعني ذلك – بحسب المقال – أن ديمقراطية السوق الحرة على استعداد لأن تصبح صاحب مصلحة مسؤولاً في النظام الذي تقوده الولايات المتحدة واللعب وفقاً للقواعد، دون رغبة في تغييرها، لكن الصينيين والأمريكيين لا يزالون – كما اتضح – غير مستعدين لقبول ذلك.

3– تجاهل الغرب الارتدادات السلبية للعولمة: يجادل المقال بأن الولايات المتحدة وحلفاءها تجاهلوا عشرات الملايين من مواطنيهم الذين شعروا بأنهم تخلفوا عن الركب بسبب العولمة، وقد ازدادت مظالمهم بسبب تزايد الدخل وعدم المساواة في الأجور، وتحول التركيبة السكانية، وسياسات الهوية، والاستقطاب من تقنيات الإعلام الجديدة. وبعد عقود من الإهمال، أصبح معظم هؤلاء المواطنين غير واثقين بحكوماتهم والديمقراطية نفسها؛ ما جعل قادتهم أقل قدرةً أو رغبةً في القيادة. لذلك يعتقد المقال أن 90% من كل الأزمات الجيوسياسية في العالم – وعلى رأسها الحرب في أوكرانيا، والمواجهة حول تايوان، والتوترات النووية مع إيران وكوريا الشمالية – هي نتيجة مباشرة أو غير مباشرة للركود الجيوسياسي الناجم عن هذه القضايا الثلاث. ومن ثم، يعتبر الكاتب أن الأزمات لا تتعلق بالقادة الأفراد، بل هي سمة هيكلية للمشهد الجيوسياسي.

عالم جديد

يعتقد المقال أنفترات الركود الجيوسياسي لا تدوم إلى الأبد؛ إذ إن النظام العالمي القادم شيء مختلف تماماً عن الأنظمة السابقة، وهو عبارة عن أنظمة عالمية متعددة، منفصلة لكنها متداخلة؛ وذلك للأسباب التالية:

1– تفكك النظام الدولي إلى أنظمة عالمية متعددة: يشير المقال إلى أننا لم نعد نعيش في عالم أحادي القطب أو ثنائي القطب أو متعدد الأقطاب؛ وذلك لأنه لم يعد لدينا قوى عظمى متعددة الأبعاد، أي تمارس قوة عالمية في كل المجالات. وعدم وجود قوى عظمى يعني عدم وجود نظام عالمي واحد؛ لذلك يعتقد المقال أن النظام الحالي عبارة عن أنظمة عالمية متعددة، منفصلة ومتداخلة.

2– وجود نظام دولي أمني أحادي القطبية: يشير المقال إلى أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي يمكنها إرسال جنود وبحارة وعتاد عسكري إلى كل ركن من أركان العالم. ويعتقد المقال أن دور واشنطن في النظام الأمني اليوم أكثر أهميةً بل أكثر هيمنةً مما كان عليه قبل عقد من الزمان. فيما تعمل الصين على تنمية قدراتها العسكرية بسرعة في آسيا، ولكن ليس في أي مكان آخر بالأهمية نفسها. وهذا يثير قلق حلفاء الولايات المتحدة في منطقة الهندوباسيفيك، الذين يعتمدون الآن على المظلة الأمنية الأمريكية أكثر من ذي قبل. وبالمثل، فإن التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا جعل أوروبا أكثر اعتماداً على الناتو بقيادة واشنطن.

3– اتسام النظام الاقتصادي الدولي بالتعددية: من جانب آخر، ضَعُف الجيش الروسي بفعل خسارة نحو 200 ألف جندي والكثير من عتاده المهم في أوكرانيا، وسيكون من الصعب إعادة بنائه في مواجهة العقوبات الغربية. وفي حين تمتلك موسكو وبكين ودول أخرى أسلحة نووية، لكن استخدامها في الواقع لا يزال بمنزلة “انتحار” بحسب وصف المقال. ومن ثم فإن الولايات المتحدة هي القوة الأمنية العظمى الوحيدة في العالم، وستظل كذلك على الأقل خلال العقد القادم، لكن تلك القوة لا تسمح لواشنطن – وفقاً للمقال – بوضع قواعد للاقتصاد العالمي؛ لأن النظام الاقتصادي متعدد الأقطاب.

4– اعتماد أمريكي–صيني متبادل في المجال الاقتصادي: على الرغم من كل الحديث عن حرب باردة جديدة، فإن كلّاً من الولايات المتحدة والصين تعتمد على الأخرى اقتصاديّاً بدرجة كبيرة بحيث يتعذر فصل إحداهما عن الأخرى. وتستمر التجارة الثنائية بين البلدين في تحقيق ارتفاعات جديدة، وتريد الدول الأخرى الوصول إلى كل من القوة الأمريكية والسوق الصينية المتنامية (التي ستصبح قريباً الأكبر في العالم). ومن ثم، لا يمكن خوض حرب اقتصادية باردة إذا لم يكن هناك من يرغب في خوضها. وفي الوقت ذاته، يعد الاتحاد الأوروبي أكبر سوق مشتركة في العالم، وهو قادر على وضع القواعد والمعايير التي يجب على الأمريكيين والصينيين وغيرهم قبولها ثمناً للتعامل معهم، كما لا تزال اليابان قوة اقتصادية عالمية. وينمو أيضاً اقتصاد الهند بسرعة، وينمو معها تأثيرها على المسرح العالمي. ويشير المقال إلى أن الأهمية النسبية لهذه الاقتصادات وغيرها ستستمر في التحول خلال العقد القادم، ولكن ما هو مؤكد هو أن النظام الاقتصادي العالمي كان وسيظل نظاماً متعدد الأقطاب.

5– هيمنة شركات التكنولوجيا على النظام الرقمي: يشير المقال إلى أنه بين النظامين الأمني والاقتصادي، هناك نظام ثالث ناشئ بسرعة يُتوقع أن يكون له قريباً تأثير أكبر من النظامين الآخرَين، وهو النظام الرقمي. وعلى عكس أي نظام جيوسياسي آخر في الماضي والحاضر، يشير الكاتب إلى أن الجهات الفاعلة المهيمنة التي تضع القواعد وتمارس القوة ليست الحكومات بل شركات التكنولوجيا؛ فبينما ساعدت أسلحة الناتو واستخباراته وتدريباته الأوكرانيين في الدفاع عن أراضيهم، أدى وجود شركات التكنولوجيا الغربية التي تحركت بسرعة لصد الهجمات الإلكترونية الروسية، والسماح للقادة الأوكرانيين بالتواصل مع جنودهم في الخطوط الأمامية، إلى عرقلة خطط روسيا بالإطاحة بأوكرانيا في غضون أسابيع وحسم الحرب.

بل يعتقد المقال أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ما كان له أن يبقى في السلطة اليوم لولا شركات التكنولوجيا وقوتها في النظام الرقمي الجديد، كما استطاعت تلك الشركات حظر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من الحديث على منصاتها. وبدون وسائل التواصل الاجتماعي وقدرتها على الترويج لنظريات المؤامرة، ما قام تمرد في 6 يناير في كابيتول هيل، ولا ثورة 8 يناير في البرازيل وغيرهما؛ لذلك يجادل المقال بأن هذا قدر مذهل من القوة جمعته شركات التكنولوجيا لدرجة أنها أصبحت لاعباً جيوسياسيّاً في حد ذاتها. وبحسب المقال، يتحكم هؤلاء الفاعلون – أي شركات التكنولوجيا – في جوانب المجتمع والاقتصاد والأمن القومي التي كانت لفترة طويلة حكراً حصريّاً على الدولة، وتؤثر قراراتهم الخاصة بشكل مباشر على سبل العيش والتفاعلات، وحتى على أنماط التفكير لمليارات الأشخاص في جميع أنحاء العالم، كما أنها تشكل بشكل متزايد البيئة العالمية التي تعمل فيها الحكومات نفسها.

ثلاثة سيناريوهات

في إطار ما سبق، يطرح المقال تساؤلاً مهماً: كيف ستستخدم شركات التكنولوجيا قوتها المكتشفة حديثاً؟ وفي ضوء ذلك، يقدم المقال ثلاثة سيناريوهات محتملة؛ وذلك على النحو التالي:

1– قيام حرب تكنولوجية باردة بين القوى الكبرى: إذا استمر القادة السياسيون الأمريكيون والصينيون في تأكيد أنفسهم بقوة أكبر من أي وقت مضى في الفضاء الرقمي، وإذا اصطفت شركات التكنولوجيا مع حكوماتهم المحلية، يتوقع المقال أن ينتهي الأمر بحرب تكنولوجية باردة بين الولايات المتحدة والصين. وسينقسم العالم الرقمي إلى قسمين، وستضطر البلدان الأخرى إلى اختيار أحد الجانبين، وستتفتت العولمة؛ حيث تصبح هذه التقنيات الاستراتيجية المنفصلة هي المسيطر على الأمن القومي والاقتصاد العالمي.

2– احتمالية ظهور نظام رقمي معولم: إذا التزمت شركات التكنولوجيا باستراتيجيات النمو العالمية، ورفضت التوافق مع الحكومات والحفاظ على الفجوة القائمة بين مجالات المنافسة المادية والرقمية، يتوقع المقال نشأة “عولمة جديدة”؛ أي نشأة نظام رقمي معولم؛ إذ ستبقى شركات التكنولوجيا ذات سيادة في الفضاء الرقمي، وتتنافس إلى حد كبير بعضها مع بعض للحصول على الفوائد، ومع الحكومات على القوة الجيوسياسية، إلى حد كبير بالطريقة التي تتنافس بها الجهات الحكومية الرئيسية حاليّاً على التأثير في الفضاء الذي تتداخل فيه الأنظمة الاقتصادية والأمنية.

3– هيمنة النظام الرقمي على الجغرافيا السياسية: يشير المقال إلى أنه إذا أصبح الفضاء الرقمي نفسه هو الحلبة الأكثر أهميةً لمنافسة القوى العظمى، مع استمرار قوة الحكومات في التآكل بالنسبة إلى قوة شركات التكنولوجيا، فإن النظام الرقمي نفسه سيصبح النظام العالمي المهيمن. وإذا حدث ذلك، فسيكون لدينا عالم تهيمن عليه شركات التكنولوجيا باعتبارها لاعبين أساسيين في الجغرافيا السياسية للقرن الحادي والعشرين.

وختاماً، يشير المقال إلى أن كل هذه السيناريوهات الثلاثة منطقية تماماً، وقابلة للحدوث، وسيعتمد الأمر الذي سننتهي إليه على كيفية قيام الطبيعة المتفجرة للذكاء الاصطناعي بإحداث تغييرات في هياكل السلطة الحالية، وإذا ما كانت الحكومات قادرة وراغبة في تنظيم شركات التكنولوجيا، والأهم من ذلك، كيف يقرر قادة التكنولوجيا أنهم يريدون استخدام قوتهم المكتشفة حديثاً.

المصدر

Ian Bremmer, The Next Global Superpower Isn’t Who You Think, Foreign Policy, June 17, 2023, accessible at: https://foreignpolicy.com/2023/06/17/china–russia–us–multipolar–world–technology/

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى