د. مصطفى يوسف اللداوي | كاتب وباحث سياسي فلسطيني
قلوب الفلسطينيين جميعاً، في الوطن والشتات، وفي المنافي ودول الاغتراب، معلقة بغزة، وعيونهم إليها تتطلع، ونفوسهم إليها تهفو، وأرواحهم تشرئب نحوها، وغاية أمانيهم أن يكونوا معها، يقاتلون إلى جانبها، ويدافعون عنها، ويضحون مثلها، ويساهمون معها في معركة العز والكرامة، وحرب النخوة والشامة، التي أعادت إليهم ثقتهم بأنفسهم، وكشفت لهم بالدليل القطعي عجز عدوهم وخوائه، وضعف جيشه وخور جنوده، بعد يوم السابع من أكتوبر المجيد، الذي عانق يوم السادس من أكتوبر العظيم، فرفع الفلسطينيون في كل مكانٍ رؤوسهم عاليةً بغزة العزة، وباهوا بها وتاهوا، وفاخروا بها وتشرفوا، فقد رسم أبناؤها الصِّيد الأباة الكماة، الابطال الشجعان، للشعب والأمة ملاحم بطولةٍ عزَّ نظيرها وندر مثلها.
وهم يتابعون العدوان الإسرائيلي الغاشم على أهلهم في القطاع بقلقٍ شديدٍ وخوفِ كبيرٍ، ويحزنهم كثيراً ما يرون من مذابح ومجازر وحشية يرتكبها العدو ضد شعبهم، وتتفطر قلوبهم على الصور والمشاهد المؤلمة التي يرونها لمئات الضحايا من الأطفالٍ والنساء، وأعداد الشهداء التي تتزايد يومياً بالمئات، وتغلي الدماء في عروقهم وهم يرون آثار الدمار والخراب التي يخلفها القصف الأعمى على المباني والأحياء، والمستشفيات والمدارس والأفران والأسواق، ويشعرون بالغضب الشديد لحجم التآمر الدولي، الأمريكي والغربي عليهم، ويؤلمهم الصمت العربي الرسمي، والعجز المهين عن نصرة غزة وأهلها، وإغاثتها ومساعدتها، والاكتفاء بالإدانة الشكلية والاستنكار الضعيف والمواقف الهزيلة.
لا تكاد توجد بقعة في الأرض، في الجوار القريب لفلسطين أو بعيداً عنها خلف البحار، إلا وشهدت تجمعاتٍ فلسطينيةٍ حاشدة، ونظمت فيها مسيراتٌ ومظاهراتٌ تضامنية كبيرة مع أهلهم الصامدين في غزة، القابضين على الجرح، المحتسبين الأجر، الصابرين على المحنة والابتلاء، الواثقين بالنصر وقرب الجلاء، المؤمنين بأن الله عز وجل لن يخذلهم، وأن هذه الدماء التي سفكت منهم لن تذهب هدراً، وأن هذا الدمار الذي لحق بهم وحل بقطاعهم الحبيب سيكون لعنةً على الإسرائيليين وحلفائهم، وأنهم سيغرقون جميعاً في هذا الدم الطاهر، الذي استحال طوفاناً سيغرقهم، وكابوساً يلاحقهم، وقتلاً يتربص بهم ويطاردهم.
كل الفلسطينيين يتطلعون للمشاركة في هذه المعركة المباركة، التي باتوا يظنون أنها الحرب الخاتمة الأخيرة، فدولة الكيان لن تعود بعدها كما كانت، ومستوطنوها لن يبقوا فيها مهما حاولت حكوماتهم وادعى جيشهم وضمن حلفاؤهم وطمأنتهم راعيتهم الأمريكية، فقد أدركوا جميعاً أنهم أضعف من أن يقاتلوا الفلسطينيين، وأجبن من أن يثبتوا أمامهم ويصدوا هجومهم، وأن الفلسطينيين أبعد ما يكونون عن الخوف، وأجرأ مما ظنوا وأقوى مما توقعوا، وأنهم باتوا يتهيأون لما بعد التحرير الذي لاحت بشائره وبدت نذره.
ورغم أنهم يبعدون عن فلسطين وغزتها، ولا يستطيعون الوصول إليها، ويمنعون من القتال فيها، إلا أنهم سخروا كل طاقاتهم للمساهمة في هذه المعركة، ولم تقتصر جهودهم على المسيرات والمظاهرات، والحشود والتجمعات، بل غدا كل فلسطيني في أي مكانٍ من العالم، جندياً في هذه المعركة، ومقاتلاً عنيداً على جبهاتها، وصوتاً صادحاً فيها، ومدداً موصولاً لمقاتليها، فكانوا كتاباً وصحافيين، وفنانين ومبدعين، ورياضيين ونقابيين، وطلاباً وتلاميذاً، وعامةً وخاصةً جنوداً في هذه المعركة، يتضامنون معه أهلهم، ويفندون رواية عدوهم، ويفضحون ممارساته، ويكشفون عدوانه، وينقلون بالصورة والصوت، والبيانات والأرقام، جرائمه إلى المجتمع الدولي، ليعلم فداحة ما ارتكب، وليكتشف روايته الكاذبة وسرديته المختلقة.
لا يغفر الفلسطينيون لأنفسهم اليوم في أي مكانٍ من الدنيا تقصيرهم وعدم مشاركتهم في هذه الحرب، ويعتبرون أن الغياب خذلان والانكفاء خيانة، والتردد ضعف، ويصرون على أن يكون لهم دور وسهم، ويؤمنون أن من لا يشارك خاسر، ومن لا يساهم معاب، ونجدهم يحرمون على أنفسهم أي متعةٍ أو نزهةٍ، وإن اضطروا فإنهم يتوارون عن الأنظار، إذ يرفضون القيام بأي عملٍ يشغلهم عن غزة أو يبعدهم عنها، ونراهم قد هجروا كل شيءٍ غير شاشات الفضائيات التي تنقل لهم أجواء الحرب وحال شعبهم وصموده، فهذه معركتهم، وهذا هو شعبهم، وهم على يقين أن هذا هو زمان علوهم، وهو دون شكٍ زمان سقوط ونهاية عدوهم.