كيف توظف أجهزة الاستخبارات تطبيقات الذكاء الاصطناعي؟
أبعاد الاستفادة
أثَّر الذكاء الاصطناعي بالإيجاب في أجهزة الاستخبارات الوطنية التي اتجهت في الآونة الأخيرة إلى النظر في مختلف السبل اللازمة لتعظيم استفادتها منه. ويمكن بوجه عام الوقوف على أبرز تلك المزايا في النقاط التالية:
1– دعم عملية صناعة القرار: تُعد قدرة الذكاء الاصطناعي على اتخاذ القرار الصحيح من أهم إيجابياته؛ إذ يمكن لأجهزة الاستخبارات الاعتماد عليه لحصر الخيارات وتقييم البدائل وتقديم التوصيات؛ ما يسهل على صانع القرار اتخاذ قرارات منطقية خالية من العواطف دون التأثر بمختلف العوامل والمؤثرات المحيطة. وبعبارة ثانية، فإن استخدام الذكاء الاصطناعي يُمكِّن من اتخاذ قرارات موضوعية استناداً إلى المعلومات المتاحة، من خلال مجموعة من الخوارزميات التي تقلل من الأخطاء، وتزيد من فرصة الوصول إلى القرار المناسب بدقة متناهية.
2– التنبؤ بالأعمال العدائية: في إطار ما يُسمَّى “الذكاء الاصطناعي التوليدي/التوليفي” الذي يستخدم الأدوات التي تنشئ المحتوى والنماذج المكتوبة (مثل تطبيق “شات جي بي تي”، وDALL–E 2، وغير ذلك)؛ تُوظِّف أجهزة الاستخبارات الذكاء الاصطناعي؛ لقدرته على أتمتة المهام وتقليل الوقت اللازم للخروج بتوصيات من خلال نماذج مبتكرة يمكنها نمذجة القصد البشري، ومن ثم التنبؤ بالأعمال العدائية المحتملة؛ ما قد يُغيِّر قواعد اللعبة حال تدريب النماذج بالشكل الكافي.
3– تسهيل الدورة الاستخباراتية: يمكن من خلال تطبيقات الذكاء الاصطناعي الإلمام بأحدث التقنيات الحديثة، ومتابعة الأخبار العالمية العاجلة، والاطلاع على محتوى المقالات الأكاديمية وغير الأكاديمية الحديثة في شتى الموضوعات، وعرض جميع النتائج من حجج ووجهات نظر مختلفة، وإمداد صناع القرار باستنتاجات مبنية على أدلة وبراهين منطقية؛ إذ تمكن أنظمة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، لا سيما تطبيق “شات جي بي تي”، أجهزة الاستخبارات من التعرف على الأفكار والتوجهات الشعبية وتحليلها وتوقع مساراتها (من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، ومحركات البحث على الإنترنت، وغير ذلك)؛ للوقوف على توجهات الرأي العام تجاه مختلف القضايا، بجانب التنبؤ بالتوجهات المستقبلية لمختلف الظواهر؛ ما يُمكِّن من استشراف المستقبل وتوظيف آليات الإنذار المبكر لتدارك الكوارث والأزمات قبل وقوعها، مع تجنب بعض الجوانب المملة في دورات الاستخبارات، مثل التلخيص، وتحسين الطريقة التي تُطرَح بها الأسئلة على الذكاء الاصطناعي.
4– اختبار الفروض بسرعة فائقة: يمكن لأجهزة الاستخبارات أن تعتمد على تطبيقات الذكاء الاصطناعي، لا سيما تطبيق “شات جي بي تي” لتحليل الفرضيات المتنافسة، وهي التقنية التي يستخدمها رجال الاستخبارات لتحليل واختبار مختلف الفروض الممكنة عقب حصر البدائل المحتملة، استناداً إلى حسن فهم الواقع والأحداث الجارية من مصادر مختلفة وتلخيص التطورات الرئيسية؛ فعلى الرغم من أهمية ذلك، ازدادت صعوبته في السنوات القليلة الماضية مع الانفجار الهائل في كمية البيانات المتاحة، وبخاصة المعلومات المفتوحة المصدر؛ فقد دفع بعض خبراء الاستخبارات بأن الإلمام بكل ما يتعلق بدولة واحدة تطلب قراءة 200 ألف كلمة في عام 2015، بينما اقتصر هذا الرقم على 20 ألف كلمة في عام 1995، ولا شك في تضاعف هذا الرقم في الوقت الراهن.
5– استرجاع وتخزين المعلومات: أظهر تطبيق “شات جي بي تي” نتائج واعدة في التوليف السريع للمعلومات من مصادر متعددة في إطار ما تسمى الهندسة السريعة؛ فقد اجتاز التطبيق مجموعة من التقييمات التي تتطلب استرجاع كميات كبيرة من المعلومات، بل تمكن من تسليط الضوء على أبرز أنماط العلاقات بين متغيراتها الرئيسية، وكذا أبرز الاتجاهات المحتملة بين مؤشراتها المختلفة، وهو الأمر الذي يُسهِّل مهمة أرشفة البيانات الاستراتيجية، ويقدم بديلاً محتملاً لسجلات البيانات التاريخية، ويوفر ملخصات للمقالات الإخبارية بسرعة فائقة.
6– جذب المبرمجين العسكريين: تلعب تطبيقات الذكاء الاصطناعي، لا سيما تطبيقات الدردشة، دوراً في دفع وتعزيز البرمجيات العسكرية على اختلاف درجة تطورها، وبالتبعية جذب المبرمجين إلى وزارات الدفاع لتحليل المعلومات الاستخباراتية، على الرغم من تعدد التحديات التي تكتنف عملية تجنيدهم، وبخاصة مع ارتفاع أسعارهم عالمياً من ناحية، وإمكانية استقطابهم من أجهزة استخبارات أجنبية لتقويض الاستخبارات الوطنية من ناحية ثانية، وتعدد الفرص العالمية التي قد توفر لهم مرتبات مجزية من ناحية ثالثة.
7– الاستخدام المكثف في الصراعات: يوفر الذكاء الاصطناعي للأجهزة الاستخباراتية أداة للضغط على الخصوم وخصوصاً في أوقات الصراعات، ولعل هذا ما يتضح مثلاً من استخدام التزييف العميق (deepfakes)، والذي يشير إلى استغلال تقنيات الذكاء الاصطناعي في تكوين وإنشاء صور ومقاطع فيديو غير حقيقية ومضللة تستهدف الضغط على الخصوم والتأثير السلبي عليهم. وتجلت بعض مظاهر هذا النمط في الصراع الأوكراني؛ حيث أشارت تقارير عديدة إلى استخدام التزييف العميق في الصراع الروسي – الأوكراني عبر وجود مقاطع فيديو معدلة لبعض مسؤولي الدولتين، تستهدف التضليل والتأثير على الخصم.
وفي هذا الإطار، يعتقد الخبراء العسكريون أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يلعب دوراً مهماً في النزاعات المستقبلية مع أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تتنبأ بتحركات العدو وتحليل كميات كبيرة من البيانات لتحديد التهديدات المحتملة. ولعل هذا ما دفع “نيكوس لوتاس” رئيس سياسة البيانات والذكاء الاصطناعي في الناتو، إلى أن يصرح – خلال قمة الذكاء الاصطناعي في لندن، خلال أسبوع لندن للتكنولوجيا في يوليو 2022 – بأن النزاعات الحالية والمستقبلية ستكون نتائجها مرتبطة، بشكل ما، بالذكاء الاصطناعي، وقدرة أطراف هذه النزاعات على استخدامه بسرعة وفاعلية.
تحديات بارزة
على الرغم من تعدد الفرص التي يقدمها الذكاء الاصطناعي لأجهزة الاستخبارات، فإن ذلك لا يقلل من شأن بعض التحديات التي يفرضها عليها في المقابل. ويمكن الوقوف على أبرز تلك التحديات من خلال النقاط التالية:
1– صعوبة تقديم حلول مبتكرة: إن الذكاء الاصطناعي لا يعدو كونه نموذجاً رياضيّاً يعتمد على الأنماط اللغوية، ومن ثم فإن ردوده واستجابته ليست أصلية بالمعنى الإنساني للكلمة؛ فهي عبارة عن مجموعة من العبارات والكلمات التي تدرب عليها سلفاً دون أن يكون له أي دور في توليدها أو استحداثها من العدم؛ ولذا لا يمكن إغفال عدم قدرته على اتخاذ القرارات باستخدام العاطفة التي لا غنى عن الانسياق وراءها في بعض الحالات، لا سيما في حالة القرارات الجماهيرية، كما لا يمكنه ابتكار حلول فريدة للتحديات السياسية؛ بسبب افتقاره إلى الإبداع؛ إذ يمكن برمجته لإنتاج أفكار “جديدة” لا “أصلية”؛ ما يحد من قدرته على اتخاذ القرارات المبتكرة؛ إذ سيختار الذكاء الاصطناعي الأفضل في ظل الظروف المتاحة إلى أن يتعلم قراءة وفهم المشاعر الإنسانية.
2– الاستناد إلى معلومات مضللة: يظل قرار الذكاء الاصطناعي النهائي رهناً بحجم وجودة البيانات التي يمتلكها من ناحية، وخلوها من التحيزات السياسية من ناحية ثانية؛ فالتحيز ليس مجرد مشكلة اجتماعية أو ثقافية فحسب، وقد تؤدي عيوب التصميم أو البيانات الخاطئة وغير المتوازنة التي يتم إدخالها في الخوارزميات إلى قرارات متحيزة تُجانِبها الدقة؛ فقد يعيد الذكاء الاصطناعي إنتاج التحيز القائم على العرق والجنس والعمر الموجود بالفعل في المجتمع؛ إن اعتمدت عليه أجهزة الاستخبارات، وطبَّق صناع القرار التوصيات التي تقدمها؛ فقد يقدم تطبيق “شات جي بي تي” معلومات خاطئة أو مضللة من جراء عدم تحديثه على نحو يُقوِّض حياد وموضوعية مخرجاته المتولدة كتلك التي تتجلَّى في حالة سؤاله عن شخصيات سياسية مثيرة للجدل مثل “دونالد ترامب” و”جو بايدن” على سبيل المثال.
3– افتقاد الأصالة والضوابط الأخلاقية: دفعت “ليندا بريس”، في مقالها المعنون “ChatGPT: معضلة الذكاء الاصطناعي وتحدي العدالة”، بأن التطبيق يفتقر – بطبيعة الحال – إلى الضمير وضوابطه الحاكمة، كما أنه يفتقر إلى القدرة على تطبيق المعايير الأخلاقية في إجاباته؛ لأنه لا يفهم ماهية تلك المعايير ابتداءً؛ إذ إن الوصول المنظم وغير المحدود إلى جميع أنواع المعلومات يمثل تهديداً لقدرات أجهزة الاستخبارات على جمع المعلومات وتحليلها بدقة؛ ولذا تبحث الإدارة الوطنية للاتصالات والمعلومات التابعة لوزارة التجارة الأمريكية في ماهية التدابير التي يمكن وضعها لضمان قانونية وأخلاقية وفاعلية أنظمة الذكاء الاصطناعي كي يثق المستهلكون بها.
4– صعوبة التعويل على مخرجات الذكاء الاصطناعي: سبق اختبار قدرة تطبيق “شات جي بي تي” التنبؤية من خلال أحد الأمثلة البارزة، متمثلاً في الحرب الروسية – الأوكرانية؛ وذلك من خلال تقديم عدد واسع من المعلومات والحجج، وقد خلص التطبيق إلى ثلاث فرضيات محتملة، مرجحاً آخرها؛ فإما أن تستخدم روسيا الأسلحة النووية في أوكرانيا، وإما أن تواصل حربها التقليدية فقط، وإما أنها ستستخدم الأسلحة النووية أداةً للمساومة فقط. وعلى الرغم من أهمية ذلك، فإن محللي الاستخبارات الوطنية لن يؤسسوا تحليلاتهم بناءً على تلك النتائج؛ لكونها أقرب ما تكون إلى النتائج البدائية التي يمكن للمحللين المبتدئين تقديمها.
5– تزايد المخاوف من إحلاله محل خبراء الاستخبارات الوطنية: يظل رجال الاستخبارات بحاجة إلى تدريبات مكثفة لتعظيم استفادتهم من الذكاء الاصطناعي الذي قد يحل محلهم في المستقبل القريب؛ فقد توقع المدير السابق لوكالة الاستخبارات الجغرافية المكانية الوطنية بالولايات المتحدة “روبرت كارديللو” منذ سنوات أن الروبوتات ستحل قريباً محل معظم الصور التي جمعتها الأقمار الصناعية، وأيضاً محل عدد من المحللين البشريين، بيد أن هذه الرؤية لم تتحقق بعد. وقد دفع أيضاً بأن الكثير من التقارير التي يدعمها الذكاء الاصطناعي، لا يمكن للبشر أن يثقوا بها؛ إذ لا تزال بحاجة إلى التحليل البشري.
6– ارتفاع تكلفة تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي: قد يؤدي الفشل في تبني ودمج تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بشكل فعال في عمل أجهزة الاستخبارات، إلى تقويض الأمن القومي للدول. ونتيجةً لذلك، تنفق وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) – على سبيل المثال – مليارات الدولارات لإجراء تغييرات تنظيمية تدمج الذكاء الاصطناعي في خططها القتالية وأنظمتها الدفاعية ومهامها الإدارية، وهو ما يتجلى، على صعيد أتمتة الأعمال البسيطة، (مثل معالجة البيانات المالية)، والتنبؤ بالأعطال الميكانيكية في منصات الأسلحة، وإجراء تحليل معقد لدعم مهماتها التنفيذية. كما استخدمت وكالة مشروعات الأبحاث الدفاعية المتقدمة تقنيات التعلم الآلي المتمثلة في برنامج (Air Combat Evolution) للنظر في المخرجات المحتملة لقتال بين طيار تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي وآخر بشري، وهو ما تبرز أهميته في ظل احتدام السباق الدولي في هذا المجال؛ إذ يضخ المنافسون الاستراتيجيون – وبخاصة الصين وروسيا – استثمارات ضخمة على صعيد توظيف الذكاء الاصطناعي في مجالي الاستخبارات والأمن القومي.
7– هشاشة بعض أنظمة الذكاء الاصطناعي: لا تزال العديد من قدرات الذكاء الاصطناعي التي تدعم مهام الاستخبارات الوطنية وتُيسِّر تحليل المعلومات الاستخباراتية (مثل تقنية التعرف على الوجه، والسفن الآلية، وغير ذلك)، قيد التطوير من ناحية، وتظل أنظمتها عرضةً للتلاعب والاختراق، بل قد تتعرض لمختلف التهديدات السيبرانية من ناحية ثانية؛ فبينما صُممت أنظمة الأمان القائمة على الذكاء الاصطناعي للحماية من التهديدات السيبرانية، يمكن للمهاجمين أيضاً استخدام تلك التقنيات لأغراض ضارة، تشمل استهداف أنظمة المعلومات التابعة للمنشآت الحيوية على سبيل المثال؛ فأنظمة الذكاء الاصطناعي ليست مثالية، ويمكنها أيضاً ارتكاب الأخطاء وتقديم إجابات خاطئة.
وفي هذا الإطار، دفع رئيس مكتب الذكاء الرقمي والاصطناعي بالولايات المتحدة بأن قدرة تطبيق “شات جي بي تي” على تصنيع المحتوى وكتابة المقالات الأكاديمية قد يكون مضللاً، لا سيما مع تراجع القدرة على التحقق من صحة المعلومات التي يقدمها في الوقت الذي يعبر فيه بطلاقة تدفع المستمعين إلى تصديقها حتى عندما تكون خاطئة.
ختاماً، فإن قدرة الذكاء الاصطناعي على تحليل كميات هائلة من البيانات، واكتشاف الأنماط، وتحليل العلاقات، واستنباط التنبؤات؛ تساعد أجهزة الاستخبارات على إحباط التهديدات قبل حدوثها، وتحسين فاعلية وكفاءة دوراتها الاستخباراتية. وعلى هذا النحو، من المحتمل أن يلعب الذكاء الاصطناعي دوراً متزايداً في هذا المجال في السنوات المقبلة، لا سيما مع قدرته على اتخاذ القرارات بسرعة فائقة لا يمكن للبشر مضاهاتها، كما يتوقع أن تكثف أجهزة الاستخبارات جهودها للحد من الآثار السلبية لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، لا سيما أن استخدامه لم يعد رفاهية.